الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وجاء من شأن هاتين الجنتين من حديث عياض بن غنم مرفوعًا «إن عرض كل واحدة منهما مسيرة مائة عام» والآية على ما روي عن ابن الزبير، وابن شوذب نزلت في أبي بكر، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عطاء أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ذكر ذات يوم وفكر في القيامة، والموازين والجنة، والنار، وصفوف الملائكة، وطي السموات، ونسف الجبال وتكوير الشمس وانتثار الكواكب فقال: وددت أني كنت خضرًا من هذه الخضر تأتي على بهيمة فتأكلني وأني لم أخلق فنزلت: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ}.{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} صفة لجنتان وما بينهما اعتراض وسط بينهما تنبيهًا على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة موجب للإنكار والتوبيخ، وجوز أن يكون خبر مبتدأ مقدر أي هما ذواتًا، وأيًا مّا كان فهو تثنية ذات بمعنى صاحبة فإنه إذا ثنى فيه لغتان ذاتًا على لفظه وهو الأقيس كما يثنى مذكره ذوا، والأخرى {ذَوَاتَا} برده إلى أصله فإن التثنية ترد الأشياء إل أصولها، وقد قالوا: أصل ذات ذوات لكن حذفت الواو تخفيفًا؛ وفرقا بين الواحد والجمع ودلت التثنية ورجوع الواو فيها على أصل الواحد وليس هو تثنية الجمع كما يتوهم وتفصيله في باب التثنية من شرح التسهيل، والأفنان إما جمع فن بمعنى النوع ولذا استعمل في العرف بمعنى العلم أي ذواتًا أنواع من الأشجار والثمار، وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير والضحاك، وعليه قول الشاعر:
وإما جمع فنن وهو ما دق ولأن من الأغصان كما قال ابن الجوزي، وقد يفسر بالغصن، وحمل على التسامح وتخصيصها بالذكر مع أنها ذواتًا قصب وأوراق وثمار أيضًا لأنها هي التي تورق وتثمر، فمنها تمتد الظلال، ومنها تجني الثمار ففي الوصف تذكير لهما فكأنه قيل: {ذَوَاتَا} ثمار وظلال لكن على سبيل الكناية وهي أخصر وأبلغ، وتفسيره بالأغصان على أنه جمع غنن مروى عن ابن عباس أيضًا، وأخرجه ابن جرير عن مجاهد قال أبو حيان: وهو أولى لأن أفعالًا في فعل أكثر منه في فعل بسكوت العين كفن، ويجمع هو على فنون.{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} صفة أخرى لجنتان أو خبر ثان للمبتدأ المقدر أي في كل منهما عين تجري بالماء الزلال تسمى إحدى العينين بالتسليم، والأخرى بالسلسبيل، وروي هذا عن الحسن، وقال عطية العوفي: {عَيْنَانِ} إخداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، وقيل: {عَيْنَانِ} من الماء {تَجْرِيَانِ} حيث شاء صاحبهما من الأعالي والأسافل من جبل من مسك، وعن ابن عباس {عَيْنَانِ} مثل الدنيا أصعافًا مضاعفة {تَجْرِيَانِ} بالزيادة والكرامة على أهل الجنة.{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} صنفان معروف وغريب لم يعرفوه في الدنيا، أو رطب ويابس ولا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال ابن عباس في هذه ال: ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل، ونقل هذا في البحر عن ابن عباس أيضًا بزيادة إلا أنه حلو، والجملة كالجملة التي قبلها.{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ} حال من قوله تعالى: {ولمن خاف} [الرحمن: 46] وجمع رعاية للمعنى بعد الافراد رعاية للفظ، وقيل: العامل محذوف أي يتنعمون متكئين، وقيل: مفعول به بتقدير أعني، والاتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب، والمعنى متكئين في منازلهم {عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} من ديباج ثخين قال ابن مسعود كما رواه عنه جمع وصححه الحاكم أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهائر، وقيل: ظهائرها من سندس، وعن ابن جبير من نور جامد، وفي حديث «من نور يتلألأ» وهو إن صح وقف عنده.وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه قيل له: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} فماذا الظواهر؟ قال: ذلك مما قال الله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُوَّةَ أَعْيُنِ} [السجدة: 17] وقال الحسن: البطائن هي الظهائر وروي عن قتادة وقال الفراء: قد تكون البطانة الظاهرة والظاهرة البطانة لأن كلًا منهما يكون وجهًا والعرب تقول: هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء، والحق أن البطائن هنا مقابل الظهائر على الوجه المعروف، وقرأ أبو حيوة {فُرُشٍ} بسكون الراء، وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: قرأ عبد الله على {سُرُرٍ وَفُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} {وَجَنَى الجنتين} أي ما يجني ويؤخذ من أشجارهما من الثمار، فجنى اسم أو صفة مسبهة بمعنى المجنى {دَانٍ} قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله تعالى إن شاء قائمًا وإن شاء قاعدًا وإن شاء مضطجعًا، وعن مجاهد ثمار الجنتين دانية إلى أفواه أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك، وقرأ عيسى {وَجَنَى} بفتح الجيم وكسر النون كأنه أمال النون وإن كانت الألف قد حذفت في اللفظ كما أمال أبو عمرو {حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] وقرئ {وجنى} بكسر الجيم وهو لغة فيه. اهـ.
أي فقولوا: يا قوممِ، وتقدم عند قوله تعالى: {سنعذبهم مرتين} في سورة التوبة (101).وإيثار صيغة التثنية هنا لمراعاة الفواصل السابقة واللاحقة فقد بنيت قرائن السورة عليها والقرينة ظاهرة وإليه يميل كلام الفراء، وعلى هذا فجميع ما أجري بصيغة التثنية في شأن الجنتين فمراد به الجمع.وقيل: أريد جنتان لكل متقّ تحفان بقصره في الجنة كما قال تعالى في صفة جنات الدنيا {جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب} [الكهف: 32] الآية، وقال: {لقد كان لسبإ في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال} [سبأ: 15] فهما جنتان باعتبار يمنة القصر ويسرته والقصر فاصل بينهما.والمقام: أصله محل القيام ومصدر ميمي للقيام وعلى الوجهين يستعمل مجازًا في الحالة والتلبس كقولك لمن تستجيره: هذا مقام العائذ بك، ويطلق على الشأن والعظمة، فإضافة {مقام} إلى {ربه} هنا إن كانت على اعتبار المقام للخائف فهو بمعنى الحال، وإضافته إلى {ربه} تُشبِه إضافة المصدر إلى المفعول، أي مقامه من ربه، أي بين يديه.
|